في عشق مدينة تحب الحياة

أمـل ممدوح

تطل هنا المدينة لتكون القصة كلها، ومدينة هذا الفيلم حاوية لحياة تتساب غير مبالية فوق حواف الخطر، وهنا تكمن خصوصية مدينة مثلها، وقد اختار الأخوان عرب وطرزان ناصر في فيلمهما”غزة مونامور”مدينة غزة بؤرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كمدينة تجسد الحياة وتدفقها العنيد وإن كانت تسلب منها الحياة طوال الوقت، وبطريقة “الضد يبرز حسنه الضد” اختار المخرجان التوأمان التغزل بغزة برغم أحداثها وواقعها القاتم، من زاوية مبهجة هي حبها للحياة رغم كل ذلك، فهو فيلم عن الأمل والحياة وإن كان عن غزة.

    بنكهة سردية ساخرة تدور أحداث الفيلم من أولى لقطاته، حيث نجد أفرادا من الشرطة الفلسطينية تشاهد التليفزيون بينما بعضهم يقطعون الخضروات وآخرون يقلون السمك، بينما مكتوب في لوحة على الحائط عبارة تتغنى بالقدس، فأولى لقطات الفيلم تهدم تخيلاتك عن فيلم للمقاومة بما أنه عن غزة، بل تسخر في الصميم، رغم تقديم بعض مفردات هذه المقاومة بصريا، نتتبع عالم المدينة وسكانها من خلال بطل الفيلم عيسى ناصر”سليم ضو”الصياد ذو الستين عاما، ذلك الرجل الذي يشبه مدينته، رغم كبر السن البادي عليه، لكنه يحيا بقلب فتيّ يحتسي الحياة بمهل كسيجارته، يصطاد ليلا، ليبيع بضاعته نهارا، يحرص على التعطر وتحيطه الأغنيات العاطفية والمسلسلات الرومانسية، وبرغم صرامته الظاهرة، لكنه لم يفقد رقته وظل مخلصا لقلبه بأن لا يتزوج دون أن يحب، وأخيرا أحب سهام”هيام عباس”، الخياطة الأرملة الرزينة التي تعيش مع ابنتها الوحيدة الشابة، لتكون قصة حب عيسى ورحلة بوحه به الخط السردي الأساسي للفيلم، بينما تنكشف جعبة المدينة أمامنا ببساطة خلال الرحلة.

     تغلف الكوميديا الساخرة أجواء الفيلم وكل تفاصيله، بأشكال عدة سواء في الحوار  أو بنية المواقف المتناقضة والتي كثيرا ما تنسف أملا ببساطة، وهو ما تدعمه أيضا محتويات الصورة والكلمات والرسومات التي يكثر أن تطل بينها، ككلمة يا قدس بجوار الجنود المنشغلين بتقطيع الخضروات، أو جدارية لسلاح في طريق عيسى لمحبوبته، أو كلمات كمغلق مرة ومفتوح أخرى عند محل سهام، ما يذكرنا بلمحات من عالم أفلام إيليا سليمان بكوميدياها السوداء الساخرة ومفردات صورتها الفاعلة التي تشي بمعان ضمنية، يعثر عيسى على صيد ثمين بالصدفة لتمثال الإله الإغريقي أبوللو، لتكون السخرية من التمثال الإله وألوهيته نفسها موازية لسرد الحدث، فكل شيء تزاح عنه جلالته؛ يتنقل التمثال الإله محمولا بلا حول ولا قوة، يقع فيكسر عضوه الجنسي، وتشترك الشرطة في محاولة الاستفادة منه وبيعه، فينزع جلالها كما نزع من أول لقطة وطوال الفيلم، حيث تظهر فجأة في حياة الناس ولحظاتهم الخاصة، ويتعاملون معها دون هيبة أو اكتراث، ويحلم عيسى بمحبوبته أثناء حبسه، فلا شيء سيمنع الحلم وإن كان خلف القضبان، التي كثر ظهورها في عدة كادرات بهيئات مختلفة، سواء كانت أعمدة في الشارع أو في سرير أو نافذة أو سجن فعلي، لكن الحياة تسير والصورة تسير لتكون القضبان عابرا سريع المرور رغم كثرة وجوده، ويستمر هدم المواقف في ذروتها كمزيد من العبث الساخر ، كالقبض على عيسى في مواقف هامة، يحبس غير مبال فيطلق ببساطة وتستأنف الحياة بلا اكتراث، فنحن أمام مجتمع متعايش مع الجزع بل دجنه وجرده من هيبته، نجد أخت عيسى تحادثه في أمر زواجه من خلف قضبان حبسه، و سهام تتابع فيلمها المفضل وتكمل كنسها أثناء القصف الإسرائيلي الذي يعد شكلا من أشكال الحياة اليومية، وبينما لا نرى مقاومة جادة إلا بالأغاني والشعارات والصواريخ البلاستيكية، ما يعد نقدا مبطنا يطل من نسيج الفيلم، إلا أننا بهذا السياق سندرك أن الاستغراق بإصرار في الحياة وتفاصيلها رغم قسوتها التي نجح الفيلم في عرضها بشكل غير مباشر، كانقطاع الكهرباء المستمر والغلاء وتخفيض الرواتب؛ هو المقاومة الأقوى لهذه المدينة، تماما كحركة قارب عيسى وسط البحر، .فالحياة في الفيلم كمقامرة ماهرة ونقلات طيعة بين إصبعين، أمل ويأس، فتح وغلق أو أمن ويأس.

      تبوح أجواء الفيلم بخلفية الحياة في هذا المجتمع دون أن تتصدر السرد، وهي المهارة الحقيقية لسيناريو الفيلم، فالظروف الاقتصادية والسياسية تلوح بينما تظل القصة البشرية التي تواجهها هي المحور، وهو ما تم تقديمه بتأثيرات الواقعية الجديدة من حيث الأماكن الواقعية وتفاصيلها سواء الخارجية أو الداخلية، والكادرات المهملة البسيطة (أو ما تبدو كذلك) والإضاءة الطبيعية القاتمة، فيسود الفيلم الجو الشاحب البارد قاتم الإضاءة والذي غالبا ما يكون إما ليلا أو نهارا غائما ممطرا، ليكون الأزرق الشاحب الأكثر وجودا، وتكون النقلة المضادة للونٍ أحمر دافىء فقط في المشاهد الحميمية وهما مشهدان أحدهما حلما والآخر حقيقة، فلقاء المحبين وحده من يدفىء هذا الشحوب، وهو قادر على الوجود بثبات لا مبال وإن كان في قارب وسط حصار، فبينما نتتبع قصة حب عيسى لسهام نجدنا نتتبع بصورة أوسع قصة حب لغزة..هذه المدينة التي ما زالت تؤجج العشق وتلد الحياة

Leave a comment

Blog at WordPress.com.

Up ↑

Design a site like this with WordPress.com
Get started