أمــل ممدوح
عيناي منهكتان ببكاء لم تذرفاه، هذا التعبير لفرناندو بيسوا في كتابه “اللاطمأنينة”، هو حال تلك الأرواح التعبة، التي تعج بالأسئلة المشقية، من تدرك الألم ولا تعرف الخلاص، ربما كان أول مرافىء خلاصها البوح، وهي الخطوة التي خطتها ماريان خوري في فيلمها التسجيلي “إحكيلي” والذي أخرجته وكتبت له السيناريو، والذي فاز بجائزة الجمهور في الدورة 41 لمهرجان القاهرة السينمائي؛ في عنوان حاث على بوح الآخرين بالإجابات، بينما تبوح هي بالأسئلة.

يعلن الفيلم عن نفسه كفيلم سيرة بزاوية ذاتية، فهو عن ماريان نفسها، التي قررت أن تمارس ما يشبه أدب الاعتراف والمكاشفة، فتتبع أمامنا ببث مباشر عذاباتها الدفينة، بتلقائية وموضوعية رغم ذاتية الفيلم، كمحارة قررت فتح صدفتها، لتفهم ما كان من البحار التي ألقتها وفيها، فهي تريد الحقيقة، فتذهب بنا في رحلة استقصائية عائلية لتحرير الذات، بتتبع الماضي وقطعه الناقصة، لنصبح أمام فيلم يتسع كثيرا عن زاويته الذاتية المباشرة، لسجل إنساني لفترات متعاقبة من حياة عائلة كبيرة، متشعبا بثراء سلس لعذابات آخرين، كانوا يبدون مدانين أو عابرين.
يأخذنا الفيلم ببدايته رأسا لفكرته، مع حركة كاشفة عن كاميرا، بمنتصف حوار بين ماريان وابنتها سارة الشاذلي، حول فكرة تتأملها ماريان في حياتها، وهي ضرورة أن يموت أحد كي يعيش آخر، فترد عليها سارة بمنطق عقلاني عادة، ليبدأ مشهد جديد يستكمل الحوار بينهما لكن في المنزل، بحيث تبدو الكاميرا مثبتة على سارة في كادر ضيق، بينما لا تظهر ماريان لكن نسمع صوتها، تلقي الأسئلة المتأملة متتبعة خواطرها المبعثرة، لفهم مكنوناتها المتعبة عن علاقتها الملتبسة بأمها الراحلة، في حالة تبادلية مثيرة لأم تحاور ابنتها عن علاقتها هي كابنة مع أمها، ليكون هذا المشهد بحوار متصاعد، مفصليا يتكرر بشكل ثابت تتخلله مشاهد أخرى بطريقة المونتاج المتوازي، ليبدو الحوار بينهما الإطار البنائي الرئيسي المستمر حتى النهاية، ضمن فكرة الفيلم الأساسية كرحلة استقصائية نفسية حول علاقة ماريان الشائكة بأمها، خاصة بمعرفتها بمحاولة أمها لإجهاض حملها فيها، لتنتهج هذه الرحلة ثلاثة خطوط سردية رئيسية، أولها استكشاف شخصية والدة ماريان وظروف حياتها وعالمها الداخلي، من خلال المقربين منها من العائلة، وثانيهما يتناول حياة ماريان نفسها وفهم ذاتها، وما يتخلل ذلك من تذكر ردود أفعال والدتها تجاه حياتها، التي تكتشف تدريجيا أنها كانت داعمة محبة لكن بطريقتها، وخط ثالث يتناول علاقة ماريان بابنتها كنوع من تبادل الأدوار الضمني، حيث تصبح ماريان في موقف أمها، كما يتدرج البوح ليصل لسارة، فتفاجىء ماريان بقدر كبير من اللوم لابتعادها صغيرة عنها، كلوم ماريان لأمها، لتبدأ ماريان دفاعا عن نفسها ينتهي بدفاعها عن أمها، لتفهم أخيرا كم كانت تحبها، ما يدفعها تدريجيا للتسامح ولحالة أكثر قربا وتصالحا مع الإبنة.
ينعكس المشهد الرئيسي بين ماريان وابنتها في النصف الثاني تقريبا من الفيلم، لتصبح سارة من تقوم بالتصوير وطرح الأسئلة مختفية عن الصورة، وماريان من تجيب وتثبت الكاميرا عليها، كتصاعد درامي في رحلتها للاستكشاف والتحرر، ليتوازي مع ذلك جولة حوارية بحالة حيوية مع أفراد أسرتها، تستدعي صورا قديمة ولقطات فيديو قديمة مؤرخة، برائحة أزمنة عدة في مدن متعددة، بحالة شاعرية من النوستالجيا مثيرة للتأمل، تحوي قصص أجيال متعاقبة، خاصة من السيدات، تضم جدتها ماريكا “نونا” التي نكتشف أنها غصبت على الزواج، ثم أمها إيريس، وماريان وابنتها سارة، مع تطرق هام وجذاب لحوارات مع خالها المخرج يوسف شاهين حول أمها، التي كان معروفا بقربه منها وقوة علاقتهما، من خلال لقطات مسجلة معه حول أمها، بالتوازي مع أجزاء متصاعدة من فيلمين من أفلام سيرته، هما حدوتة مصرية واسكندرية ليه، ليكمل السرد الروائي والتسجيلي بعضهما بشكل مثير ممتع وداعم للسرد، موضحا أيضا جوانب من عالم شاهين الداخلي، ليبدو للجميع وجوه داخلية أخرى، حتى الراحلون منهم للشطآن البعيدة. تطل من هذا السرد المركب ثنائيات الموت والحياة، حيث تتكرر مواقف في تاريخ الشخصيات تتلو فيها الحياة الموت أو العكس، كزواج والدي ماريان بعد وفاة جدتها لأبيها، وولادة ماريان لابنتها بعد وفاة أمها، ووفاة أم ماريان يوم عيد الميلاد، ووفاة شقيق شاهين الأكبر صغيرا في أعقاب عيد الميلاد، في حالة من الشجن يمتزج بالبهجة والدفء العائلي، بإيقاع متدفق وسياق شاعري انسيابي، محكم ببساطة شديدة، لتجمع ماريان وابنتها أخيرا لقطات مبتهجة، متجاورتين بلا فواصل، بعكس ما كانتا في بداية الفيلم ووضعها المتقابل، ليكتمل وصول ماريان لحالة سلام واغتسال بسباحة هادئة في البحر، الذي كان يطل صوته مع الذكريات أو يبدو ثائرا غاضبا في إحدى اللقطات، والذي كانت تغطس فيه أمها طويلا كمن تتوارى فيه حزنا لتعاسة ابنتها في زواجها، بينما يبدو أخيرا هادئا متسعا كمن يضم مولودا جديدا.
Leave a comment